بنیاد ایران شناسی-موسسة الدراسات الایرانیة

خلاصة تاریخ الدراسات الإیرانیة منذ مطلعها إلى القرن العشرین

كانت إیران ومعرفتها موضع اهتمام الأوربیین منذ القدم، إلى درجة أن المؤرخین الیونانیین هیرودوت وکسینوفون أشارا إلى إیران فی مؤلفاتهما بقولهم: «عدوّ صلب بثقافة جدیرة بالاهتمام». تتمتع إیران فضلاً عن مساحتها الجغرافیة الكبیرة بثقافة وحضارة غنیة جداً لها جاذبیة وألق خاص یستقطب إلیه الباحث الأجنبی تلقائیاً ودون إرادة. ذلك أن الثقافة الإیرانیة كان لها منذ البدایة جوانب عالمیة وإنسانیة، وكانت الأفكار والمعتقدات والفنون والآداب والفلسفة والعلوم فی إیران معروفة دائماً من قبل الآخرین وذات قیمة خاصة عندهم. طوال قرون متمادیة كان أبرز دور لإیران فی التمدن والتحضر العالمی هو مزجها بین الحضارات والثقافات والفنون والمعتقدات المختلفة فی الشرق والغرب بفضل موقعها الجغرافی وروحها الوطنیة والعرقیة، وإنتاج تركیبة من هذه الأجزاء والعناصر المختلفة یمكن فهمها وقبولها من قبل الجمیع، وهذا ما استرعى اهتمام الباحثین الغربیین لیدرسوا الثقافة الإیرانیة، وما جعل الدراسات الإیرانیة موضع اهتمام بالغ من قبل المؤرخین والسیاح والمستشرقین والخبراء بالإسلام والسیاسیین والصحفیین، سواء من حیث هی ظاهرة اجتماعیة وسیاسیة، أو على شكل تقلید شائع وحقل علمی، أو كشعبة من الدراسات الشرقیة أو المناطقیة منذ القدم وإلى هذا الحین.

إذا كانت الدراسات الإیرانیة بمفهومها العام معرفة إیران، فكما سلفت الإشارة فإن هیرودوت وكسینوفون المؤرخین الیونانیین المعروفین، وعدد آخر من السیاح والمفكرین الغربیین فی ذلك العصر، تحدثوا عن إیران ودرسوها لمعرفتها، وكانوا بشكل من الأشكال علماء فی الإیرانیات. یعتبر علماء الإیرانیات أن بدایة الدراسات الإیرانیة كانت من بعد ظهور كتابات هؤلاء الأفراد ورحلات الأجانب وكتابات علماء الجغرافیا الذین كانوا غالباً من بلدان إسلامیة أو أوربیة. واستمر هذا السیاق إلى أن دخلت الدراسات الإیرانیة مرحلة جدیدة أوسع بترجمة آثار متعددة لعلماء وحكماء إیرانیین (كتبت أغلبها بالعربیة) إلى اللغة اللاتینیة، وصارت إیران هی الأخرى موضوع دراسة العلماء الغربیین كما هو الحال بالنسبة لأجزاء وبلدان أخرى من الشرق لها تباینات ماهویة مع الغرب. انطلقت نهضة ترجمة الآثار الكبرى فی الحكمة والفلسفة والعلوم الإسلامیة - وآثار العلماء الإیرانیین من أركانها البارزة - تزامناً مع الحروب الصلیبیة فی البلدان الأوربیة المتطورة. وأدى الاتصال القریب مع الشرق - وهو من لوازم تلك الحروب - بالأوربیین إلى التفطن للسیادة العلمیة والثقافیة للشرق وضرورة الإطلاع على العلوم والحكمة فی بلاد المشرق. وقد كان البابا سیلفستر الثانی هو الذی أسس فی نهایات القرن العاشر للمیلاد لهذه النهضة المختصة بآثار العلوم والحكمة فی الشرق، وعكف عدد كبیر من العلماء المسیحیین فی القرنین الحادی عشر والثانی عشر على ترجمة هذه الآثار إلى اللغة اللاتینیة. وترجم على مدى ثلاثة قرون أكثر من ثلاثمائة كتاب شرقی مهم إلى اللغة اللاتینیة، یمكن الإشارة من بینها إلى العدید من مؤلفات ابن سینا، ومحمد بن زكریا الرازی، والفارابی، والبیرونی.

فی مستهل القرن الرابع عشر للمیلاد كان لصدور كتاب رحلة الرحالة الإیطالی المعروف ماركو بولو دور مهم فی لفت أنظار عدد كبیر من الأوربیین إلى إیران. واقترن ذلك بنشاط رجال الدین الكاثولیك فی البلدان الشرقیة بسبب قیام دول وحكومات مغولیة غیر مسلمة فیها. فی بدایات ذلك القرن وبهدف تعریف المبشرین المبتعثین من قبل الكنیسة على بلاد الشرق، بادر البابا كلمنتوس إلى تأسیس عدة دور علم لتدریس اللغات الشرقیة (بما فی ذلك اللغة الفارسیة) فی بلدان إیطالیا وإسبانیا وفرنسا، وأقدم القساوسة الفرانسیسكان فی سنة 1303 م على تألیف أول قاموس للغة الفارسیة فی أوربا. أحد هؤلاء القساوسة واسمه ریكاردو دامونته كروچه سافر فی بدایة ذلك القرن إلى مدینة تبریز (شمال غرب إیران) ومكث فیها عدة سنوات وتعلم الفارسیة فأتقنها هناك وعندما عاد إلى أوربا فی سنة 1351 م دوّن كتاب رحلة مهم حول إیران. أهم كتاب حول إیران فی هذا القرن هو كتاب رحلة معروف للرحالة كلاویخو سفیر كاستیل فی البلاط الإیرانی.

فی القرنین الخامس عشر والسادس عشر للمیلاد شهدت العلاقات بین الأوربیین والبلدان الإسلامیة فی الشرق ومنها إیران تطورات وتنمیة ملحوظة. واهتمت خصوصاً بعض البلدان الأوربیة المسیحیة التی تعرضت للخطر مع قیام الدولة العثمانیة وهجماتها على أوربا، اهتمت بإیران باعتبارها المنافس القوی للدولة العثمانیة فی آسیا، وابتعثت سفراءها ونوابها إلى إیران. وقد أدت هذه الحالة إلى مزید من معرفتهم بإیران البلد الذی ذكر مراراً فی الكتاب المقدس وفی التواریخ الیونانیة والرومانیة القدیمة. هذه القضیة والاهتمام بالشرق الذی كان ثمرة تطور الاكتشافات البحریة للأوربیین واكتشاف طرق جدیدة نحو آسیا، خلقت منذ بدایات القرن السابع عشر للمیلاد عهداً جدیداً فی التعرف العالمی على الثقافة والحضارة فی إیران، وهو عهد لا یزال مستمراً إلى الیوم.

كان مطلع القرن السابع عشر للمیلاد فی الواقع بدایة نهضة التعرف على اللغة والآداب الإیرانیة فی أوربا. أصدر بارنابیه بریسون (Barnake brisson) فی باریس سنة 1590 م أول كتاب مطبوع حول إیران فی أوربا تحت عنوان لاتینی هو «De Regio Persarum Principatu». ولا یفوتنا القول إنه طوال هذا القرن السابع عشر صدرت فی أوربا تباعاً أهم كتب الرحلات الغربیة المختصة بإیران. فی سنة 1636 م نشر توماس هربرت (T. Herbert) تفاصیل رحلته إلى إیران ولقائه بالشاه عباس الصفوی الكبیر فی أول كتاب رحلة إلى إیران یطبع فی بریطانیا. وفی سنة 1647 م صدر كتاب رحلة مشهور للرحالة الدنماركی آدام اولیاریوس شرح فیه تفاصیل رحلته التی استغرقت أربع سنوات (1635 - 1639 م) إلى إیران. وفی عام 1651 م دوّن كرنلیوس دوبروین (C. de Bruyn) تفاصیل رحلته الطریفة إلى إیران فی كتاب صدر بعد ذلك فی خمسة مجلدات فی العاصمة الهولندیة أمستردام، وكان دوبروین قد أقام لمدة من الزمن فی منطقة تخت جمشید الأثریة فی جنوب إیران ورسم أول رسوم تخطیطیة لآثار تلك المنطقة.

ینبغی اعتبار القرن الثامن عشر قرن إصدار ونشر الآثار البحثیة الكبرى فی أوربا حول تاریخ إیران ولغتها وآدابها. فی القرن الثامن عشر للمیلاد اكتسبت الدراسات الإیرانیة فی بریطانیا وفرنسا تدریجیاً ازدهاراً وتطوراً كبیرین. ومع ترجمة كتاب الأوستا (الأبستاق) من قبل المستشرق وعالم الإیرانیات الفرنسی الشهیر انكتیل دوپرون (Anquetil Duperron) فی عام 1771 م دخلت الدراسات الإیرانیة مرحلة جدیدة. بصدور هذا الأثر العظیم انطلقت نهضة التعرف على الدیانة القدیمة فی إیران والبحوث الأوستائیة والبهلویة الواسعة فی البلاد الأوربیة، والتی أضحت على طول القرن الثامن عشر وخصوصاً فی القرن التاسع عشر أكبر حقل فی الدراسات الإیرانیة فی البلاد الأوربیة.

یعتبر الكثیر من المفكرین أن أوائل الباحثین فی الإیرانیات كانوا خبراء فی الأوستا، ویعدونهم رواد الدراسات الإیرانیة وطلیعة الخبراء بالشؤون الإیرانیة.

یمكن اعتبار القرن التاسع عشر ذروة الدراسات الإیرانیة فی العالم الغربی، ذلك أن هذه الدراسات شهدت فی القرن التاسع عشر تطوراً كبیراً وغیر مسبوق فی كافة حقولها ومجالاتها. وقد تأسست فی هذا القرن اتحادات استشراقیة مهمة الواحد تلو الآخر فی البلدان الأوربیة المتقدمة، وكان فیها جمیعاً فرع مختص بالدراسات الإیرانیة، وزاول مئات المستشرقین فی هذه الاتحادات أعمالهم البحثیة، وكان عدد ملحوظ منهم متخصصاً فی الدراسات الإیرانیة. وقد ترجمت تقریباً جمیع الآثار الكبیرة فی الأدب الفارسی إلى مختلف اللغات الأوربیة.

طوال ذلك القرن أنجزت فی عدة بلدان غیر أوربیة وخصوصاً فی أمریكا والهند والدولة العثمانیة أعمال بحثیة وأدبیة مهمة حول إیران، وباكتشاف شفرات الخط المسماری الفارسی القدیم من قبل راولینسن (H. Rawlinson) أفتتح فصل جدید من الدراسات الإیرانیة فی العالم.

و فی بدایة القرن العشرین كان اكتشاف الكنوز الثمینة من الوثائق والكتابات الإیرانیة فی ترفان بمثابة نافذة جدیدة على معرفة ثقافة إیران القدیمة. وعلى الرغم من نشوب حربین عالمیتین فی القرن العشرین، إلّا أن الدراسات الإیرانیة استمرت فی الازدهار والتطور، ویمكن رصد فارق نوعی ملحوظ بین علماء الإیرانیات فی القرن التاسع عشر وبینهم فی القرن العشرین، ففی القرن التاسع عشر كان هناك علماء إیرانیات أكبر وفی القرن العشرین كان هناك دراسات إیرانیة أوسع. لقد كان القرن التاسع عشر من حیث إنجابه للمفكرین قرناً ذهبیاً فی إطار الدراسات الإیرانیة، لكن نوعیة الأعمال فی هذا الحقل وعدد المراكز البحثیة والوثائق المستخدمة فی ذلك القرن لا یصل إلى ما كان علیه الأمر فی القرن العشرین.

علماء الإیرانیات

یطلق تعبیر الدراسات الإیرانیة على مجموعة من الدراسات المنظمة العلمیة المتعلقة بجمیع فروع العلوم الإنسانیة الخاصة بإیران مثل التاریخ والثقافة والجغرافیا المتوزعة على مختلف أحقاب التاریخ الإیرانی. اعتبر المستشرقون مفهوم الدراسات الإیرانیة فی بدایة الأمر من شعب الدراسات الاستشراقیة، وكان عالم الإیرانیات تعبیراً یطلق على الشخص الذی یخوض فی دراسة إیران بكل قضایاها وتجلیاتها الثقافیة والحضاریة المتنوعة.

إن الدراسات الإیرانیة أو البحوث الإیرانیة كسائر شعب الدراسات الاستشراقیة، ومنها الدراسات المصریة أو الدراسات الصینیة، تتمتع الیوم باستقلال بحثی، والملتقیات والمؤسسات والإصدارات الخاصة بالدراسات الإیرانیة تؤید هذا المعنى. مع ذلك ففی الدراسات المختصة بإیران لا یمكن صرف النظر عن البحوث والدراسات الشرقیة بعامة، ولیس هذا وحسب بل الأفضل تسریة خصوصیات وتوجهات الدراسات الشرقیة على الدراسات الإیرانیة وقضایا إیران.

الدراسات الإیرانیة تعبیر حدیث كان یطلق بدایة فی إطار الدراسات الشرقیة والاستشراق. والعنوان الآخر الذی یستخدم للتعبیر عن هذا الحقل الدراسی هو البحوث الإیرانیة «مطالعات إیرانی» والذی أدرج فی النصف الثانی من القرن الثامن عشر فی القوامیس الإنجلیزیة. وقد استخدم هنری كوربان تعبیر «إیرانولوجیا» لأول مرة فی سنة 1946 م ضمن تقریر تحت عنوان «الواقع الحالی للبحوث الإیرانیة فی إیران» بعثه للمجمع العلمی للألواح والعلوم الأدبیة فی باریس.

تابع الأوربیون علم الإیرانیات كباقی حقول وشعب الدراسات الشرقیة، وكانت الدراسات الإیرانیة كباقی الدراسات الشرقیة تعتبر جزءاً من التمهیدات الاستعماریة المطلوبة للسیطرة على الشرق. لقد كانت الدول والحكومات الاستعماریة بمقدار ما تحتاج إلى خبراء عسكریین واقتصادیین تحتاج أیضاً إلى أشخاص مطلعین بنحو واف على ثقافة ولغة وعلم نفس الشعوب الساكنة فی الأراضی التابعة لهم أو التی یریدون السیطرة علیها، لتسهل علیهم عملیات إدارة واستغلال تلك الأراضی والبلدان.

و یمكن القول بكل جرأة إن الكثیر من علماء الإیرانیات الكبار فی العالم توفرت لهم أسباب العمل والدراسة فی ظل الدعم المادی والمعنوی الاستعماری، وأتیحت لهم مصادر نادرة وثمینة لمعرفة إیران وبلاد الشرق. على العموم كانت الدراسات الإیرانیة فی أطوارها التكوینیة الأولى وقفاً على الاستشراق الأوربی، وكان لها صلاتها المتنوعة بعالم السیاسة، وتتحرك فی إطار الذهنیة السائدة على تیار الاستشراق. ولكن لا یمكن فی الوقت نفسه تجاهل المساعی والخدمات التی قدمها باحثون وعلماء أوربیون لم تكن للكثیر منهم صلات بالاستعمار وبالسیاسة عموماً، وهی جهود ساهمت فی معرفة وتعریف الجوانب الحضاریة والثقافیة والتاریخیة المختلفة لإیران على مر السنین غیر القصیرة لتاریخ الدراسات الإیرانیة. وما ینبغی ملاحظته وأخذه بنظر الاعتبار هو ضرورة النظر لمناهج وبحوث وأعمال علماء الإیرانیات برؤیة نقدیة، واكتشاف أخطائها ونواقصها، وتثمین حسناتها وإیجابیاتها، خصوصاً وأن الباحثین والمحققین الإیرانیین أصبحوا بدورهم فی الوقت الحاضر متخصصین وخبراء وناشطین فی هذه المجالات، ویتاح القول إن إنجازات الإیرانیین فی الدراسات والأبحاث الإیرانیة ملحوظة وقیمة.

بشكل عام تتقسم الدراسات التی أنجزت حول إیران فی القرون الماضیة وإلى الیوم إلى قسمین: القسم الأول یشمل الدراسات التی أنجزت من دون رؤیة علمیة ونقدیة وبفضل المشاهدات والمسموعات العفویة غالباً. تعود معظم هذه الآثار إلى أحقاب تاریخیة قدیمة وما قبل العلمیة، نظیر الأعمال التی أنجزها كتاب یونانیون ورومان أو مسلمون، ومن بعدهم السفراء والسیاح والتجار.

والقسم الثانی یشمل المتابعات والبحوث والدراسات والاكتشافات والملاحظات المختلفة التی أنجزت برؤیة نقدیة وبقصد إجلاء جوانب الحضارة والثقافة فی إیران وتعریفها وعرضها على المهتمین. ومن الطبیعی أن هذه الأعمال سوف تتطور وتستكمل فی المستقبل، ویصیب القدم والخلق الكثیر منها بمرور الزمن، وتندثر مع ظهور بحوث ودراسات أحدث، إلى درجة أن بعض مصادر هذا القسم الأخیر لم یعد الیوم جدیراً بالاهتمام.

فی ضوء تدوین وتبلیغ السیاسات والخطط الاستراتیجیة للإدارة الجدیدة لمؤسسة الدراسات الإیرانیة والمعاونیة البحثیة فیها، یحاول «قسم أبحاث علماء الإیرانیات» متابعة النشاطات والبحوث المتعلقة بالدراسات الإیرانیة فی حدود المتاح، ورصد الدراسات والبحوث العلمیة حول علماء الإیرانیات وأعمالهم فی كل أنحاء العالم، وفتح باب جدید فی البحوث الإیرانیة بالتعاون مع الباحثین والمفكرین الإیرانیین والأجانب وباستخدام أسالیب البحث الفاعلة المتوثبة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع مؤسسة الدراسات الإيرانية 2016 م

العنوان: طهران، شارع الشيخ البهائي (الجنوبي)، شارع إيران شناسي، مدينة والفجر )

التصميم والتنفيذ: دائرة الحاسبات و تقنية المعلومات