بنیاد ایران شناسی-موسسة الدراسات الایرانیة

نافذة على إیران المعاصرة وأصعدتها المتنوّعة

الدراسة والبحث حول إیران المعاصرة یتطلب مجالاً واسعاً ویستدعی تخصیص الكثیر من الوقت وبذل الكثیر من الجهج البحثی، أضف إلى ذلك أن الكثیر من المجالات العلمیة والبحثیة تندرج ضمن هذا المنحى من فهم التاریخ. ویبدو أن جاذبیة وحلاوة هذه الحقبة الزمنیة أكبر من سائر الأحقاب والفترات بالنسبة للكثیر من المتلقین والمهتمین بهذا المجال البحثی، ذلك أن دراسات العالم المعاصر وبسبب قربها إلى العصر الحالی والقواسم المشتركة للإنسان المعاصر مع ماضیه القریب، تبدو أكثر جاذبیة.

عموماً، المجال الرئیسی للدراسات التاریخیة هو دراسة الأحداث والتحولات المتعلقة بفكر الإنسان وحیاته. وعلیه فإن جمیع المكتسبات المادیة والمعنویة للبشر تندرج فی إطار موضوع علم التاریخ. من هذه الزاویة، یجری الاهتمام فی إطار إیران المعاصرة بالجوانب المختلفة للحیاة الفردیة والاجتماعیة للإنسان المعاصر، الإنسان الذی له هو نفسه باعتباره كائناً عارفاً عالماً صفات خاصة، فهو من ناحیة وریث كل التجارب الواعیة واللاواعیة لأجداده وأسلافه، ولذلك فهو یمتاز بخصوصیة تاریخیة، وهو من ناحیة ثانیة أمام تجارب حدیثة بسبب مواجهته لكم هائل من التحولات المعاصرة والظروف الحضاریة الجدیدة.

هناك آراء متفاوتة حول مدیات عنوان «التاریخ المعاصر» وشموله الزمنی. فضلاً عن الاتفاق الكلی حول مفهوم «المعاصر» ومساواته لمفهوم «التعاصر» یطرح دوماً نقاش حول ما هی أساساً ركائز وملاكات هذا التعاصر؟ یعید بعض الباحثین والمختصین هذا الحیّز الزمنی إلى عدة مئات من السنین. مع ذلك یعتقد كثیر من الباحثین والأساتذة أن انتصار الثورة الدستوریة فی إیران (1324 هـ ق / 1906 م) وبسبب تأثیرها وتأثراتها العمیقة والشاملة على شتى جوانب الحیاة السیاسیة والاجتماعیة للإیرانیین، تعدّ معیاراً مناسباً لبدء هذه الفترة التی تسمّى «التاریخ المعاصر». من هنا كانت أحداث مثل الثورة الدستوریة وانقلاب سنة 1920 م، وانقراض الدولة القاجاریة، وقیام الدولة البهلویة، وانتصار الثورة الإسلامیة سنة 1979 م، من أهم الأحداث فی تاریخ إیران المعاصر من حیث البحث السیاسی التاریخی، وتنطوی كل واحدة منها على الكثیر من الوقائع التفصیلیة والتحلیلات.

جدیر بالذكر أنه على الرغم من وجود أصعدة ومجالات مغفول عنها وجدیرة بالاهتمام فی إطار عنوان إیران المعاصرة، إلّا أنه كتبت الكثیر من الأعمال والآثار فی هذا المجال امتازت بالتنوّع والتباین الكبیر من حیث المنهج والرؤیة وطبیعة معالجة الموضوعات. ویعزى هذا التنوّع إلى عوامل مثل التحولات العلمیة الجدیدة، وتنوّع وجهات النظر وكثرة المصادر العلمیة والتاریخیة والتحولات الاجتماعیة والتاریخیة. البحوث العدیدة حول إیران المعاصرة التی أنجزها باحثون إیرانیون وأجانب على شكل أنواع من التقاریر المكتوبة والیومیات والخواطر والذكریات (على شكل مذكرات مدوّنة وشفهیة) وكتب رحلات ووقائع تحلیلیة ووثائق، وتنظیم موضوعی وموسوعی للأحداث، موجودة فی متناول أیدی الباحثین والمختصین والمهتمین.

لقد تركت الثورة الإسلامیة باعتبارها أحد أهم أحداث تاریخ إیران المعاصر تأثیرات كبیرة على سیاق الدراسات الداخلیة والخارجیة حول إیران، فضلاً عن تأثیرها العمیق على جوانب مختلفة من الحیاة السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة فی إیران. بعد انتصار الثورة حظیت بالاهتمام والإقبال فی داخل البلاد موضوعات مثل دراسة وتحلیل الثورة الإسلامیة وأسباب تكوّن هذه الظاهرة، ودور الأحزاب والجماعات المختلفة فی انتصار الثورة، وحرب الأعوام الثمانیة بین إیران والعراق، والمجالات المتعلقة بالحوزات العلمیة وتأثیرات الحوزة العلمیة على تیار الثورة، والمذكرات والیومیات التی أنتجها المسؤولون فی مختلف القطاعات والسفراء والمأمورون الأجانب فی النظام السابق، وكذلك الثوریون الناشطون فی المیادین السیاسیة والاجتماعیة. كذلك بانتصار الثورة وتغیّر النظام السیاسی فی إیران توفرت فرصة الخوض فی قضایا وعناوین أخرى مثل دور القوى الخارجیة فی نظام الحكم السابق، والقوى السیاسیة المعارضة للنظام البهلوی، وقضیة تأمیم النفط وانقلاب الثامن والعشرین من مرداد (19 آب 1953 م)، والبحث والمتابعة لسیاق انتصار الثورة الإسلامیة والأحداث التی أدت لهذا الانتصار بما فی ذلك انتفاضة الخامس عشر من خرداد 1342 (5 حزیران 1963 م) وفاجعة السابع عشر من شهریور سنة 1357 (8 أیلول 1978 م)، ونشاطات الجماعات والأحزاب السیاسیة المتنوعة خلال العهد البهلوی، وإلقاء نظرة جدیدة على تاریخ العهد القاجاری وثورة الدستور، یمكن اعتبارها هی أیضاً من الموضوعات الجدیدة التی درست ونوقشت خلال حقبة ما بعد الثورة الإسلامیة. فی هذا السیاق فإن الاستفادة من مجموعة الوثائق المنشورة من قبل المنظمات والمؤسسات الحكومیة بما فی ذلك أرشیف وزارة الخارجیة وأرشیف رئاسة الجمهوریة، ومؤسسة دراسات تاریخ إیران المعاصر، و.... ، وطباعة مجلات متعددة فی هذه المیادین، وانطلاق التاریخ الشفهی كصعید جدید فی تدوین تاریخ الثورة، ساعدت مساعدة كبیرة على الاقتراب من أهداف دراسات إیران المعاصرة بعد الثورة.

لقد مرّت الأسالیب والمناهج المختلفة فی النظر لأحداث التاریخ وتدوینه منذ البدایات وإلى الیوم بالكثیر من المنعطفات. وثمة فی إیران المعاصرة تصورات متفاوتة تجاه هذه المناحی والأسالیب، وتختلف تصنیفات هذه المیول طبقاً لأنواع الرؤى الكونیة والتصورات والأسالیب وكیفیة استخدام المصادر والاستفادة منها و... .

الكثیر من هذه التصورات تكوّنت بتأثیر من آراء المستشرقین والباحثین الأجانب فی تاریخ إیران. ومن هذه التصورات والمناحی المنحى الوطنی والقومی تجاه التاریخ والذی تصاعد فی إیران خصوصاً بعد تولّی النظام البهلوی الحكم الذی كانت هذه هی نظرته الرسمیة وطریقته فی صناعة الهویة الوطنیة، حیث دعا إلى صیانة وإحیاء عظمة إیران القدیمة. ومن المناحی الأخرى المنحى الیساری فی النظر للتاریخ الإیرانی المعاصر وهو بشكل من الأشكال مواصلة للنظرة الاشتراكیة للتاریخ، وتعود جذوره إلى فترة الثورة الدستوریة. وفی الفترات اللاحقة بما فی ذلك الفترة البهلویة واصل هذا المنحى حیاته خارج نطاق النظرة الرسمیة، وتأثر بالآراء البلشفیة والمعسكر الشرقی والفلسفة الماركسیة فی تحلیل التاریخ تحلیلاً اقتصادیاً. و ضمن هذا السیاق جاءت ترجمة الكثیر من أعمال المستشرقین الروس، ومنهم بیغولوسكایا، ودیاكونوف، وبطروشفسكی، و... إلى اللغة الفارسیة فی إیران.

و كان المنحى الآخر مختصاً بالتیارات المتأثرة بالإسلام والثقافة الإسلامیة، ولا یبدی ترحیباً بالمنحیین السابقین. من الشخصیات المعروفة فی إطار هذا المنحى الشهید الشیخ مرتضى مطهری، والذی ینبغی التمییز بین مؤلفاته وبحوثه فی مجال الفلسفة والكلام وإنجازاته فی مضمار التاریخ.

النقطة الجدیرة بالذكر هی أنه على الرغم من التأكید على ضرورة مراعاة الحیاد من قبل الباحثین والخبراء فی دراساتهم، فإن الظواهر والتیارات موضوع الدراسة، وخصوصاً فی مجال إیران المعاصرة، جرى تحلیلها وفحصها دوماً من زوایة معتقدات وتصورات الكتّاب ومیولهم الفكریة. فی هذا الإطار عكف أفراد ومراكز بحثیة مختلفة بتصورات ومنطلقات متفاوتة، منها الدینیة والإسلامیة، ومنها الیساریة، ومنها القومیة، على تحلیل التیارات المعاصرة. وبالنظر لهذه الاختلافات یلوح أن التوصل إلى نظرة جامعة شاملة متقنة فی هذا الباب منوطة بالتدقیق والتبصّر فی نفس هذا التنوع والاختلاف، وتوحید الآثار التحقیقیة والبحثیة والنظر لها على أنها متساویة، لا یبدو متطابقاً مع الواقع.

فی هذا السیاق، ومن زاویة النظرة التعددیة التی تحملها الإدارة الجدیدة فی مؤسسة الدراسات الإیرانیة لقضیة البحوث فی مضمار العلوم الإنسانیة، تم تشكیل فریق عمل جدید باسم «إیران المعاصرة» بهدف دراسة ومعالجة الجوانب المتعددة لتاریخ إیران المعاصر وتیارات الدراسات الإیرانیة فی العالم المعاصر. على أمل أن یفتح فریق العمل البحثی هذا بالاستفادة من آراء المتخصصین والخبراء فی هذا المیدان، باباً جدیداً فی إلقاء نظرة علمیة توثیقیة لهذه القضیة المحفوفة بالتحدیات.

جميع الحقوق محفوظة لموقع مؤسسة الدراسات الإيرانية 2016 م

العنوان: طهران، شارع الشيخ البهائي (الجنوبي)، شارع إيران شناسي، مدينة والفجر )

التصميم والتنفيذ: دائرة الحاسبات و تقنية المعلومات